الأم: رمز الحياة وملاذ الطمأنينة
لا يمكن للكلمات أن تحيط بعظمة الأم، ولا للعبارات أن توفيها حقها، فالأم ليست مجرد شخص في الحياة، بل هي الحياة ذاتها. هي النبع الأول للحنان، وهي الحضن الذي يحتوي الإنسان قبل أن يعرف معنى الاحتواء. من أول شهقة للحياة حتى آخر رمق، تظل الأم هي الكائن الأصدق حبًا، والأوفى قلبًا، والأكثر بذلًا دون انتظار مقابل.
في حضن الأم، يتشكل الأمان، وفي صوتها ترتسم معالم الراحة، وفي ملامحها تتجلى معاني التضحية، وهي وحدها التي تسهر حين ينام العالم، وتبتسم حين يتألم غيرها، وتمنح دون أن تشتكي. وإن كان الإنسان يذوق في حياته لحظات من السعادة الخالصة، فغالبًا ما تكون تلك السعادة قد خرجت من قلب أمه أو مرّت عبر لمستها.
الأم في كل مراحل الحياة
منذ اللحظة الأولى لتكوين الجنين في بطنها، تبدأ رحلة الأم في العطاء غير المشروط. تتحمل الألم، وتخوض معركة الولادة، وتدخل دوامة الرعاية ليلًا ونهارًا. لا تعرف النوم العميق، ولا الراحة المستمرة، ولا الوقت الخاص بها. يصبح كل شيء في حياتها متعلقًا بالطفل: طعامه، صحته، راحته، بكاؤه، ضحكته، خطواته الأولى، كلماته الأولى، مرضه الأول، وحتى نجاحاته الأولى.
ثم تكبر هذه الرعاية كلما كبر الطفل، وتتحول إلى إشراف دائم وتوجيه مستمر ومساندة لا تتوقف. تكون الأم أول معلمة، وأول من يزرع القيم، وأول من يشكل الانطباع الأول عن الحياة. هي التي تعلم الصبر، وتغرس الأخلاق، وتوجه نحو الصواب، وتحذر من الزلل، دون كلل أو ملل.
قلب لا يتغير، ويد لا تنسحب
ما يميز الأم حقًا هو constancy، أو الثبات في الحب والدعم. لا تتغير مشاعرها مع تغير الظروف، ولا تضع شروطًا على عطائها. حتى في أقسى لحظات الغضب، تبقى الأم أمًا. وإن اختلفت مع أولادها، فإنها تختلف بعين الحب. وإن بكت من تصرفاتهم، فإن دموعها تخرج من حرصٍ لا من ضيق. يدها تظل ممدودة دائمًا، وقلبها مفتوح مهما تغيرت الأمور.
كم من ابنٍ عاد لأمه بعد طول غياب فوجد الحضن نفسه لم يتغير، وكم من ابنةٍ أخطأت فعادت فوجدت الأم تستقبلها بالدعاء والدمع والقبول. الأم لا تحقد، ولا تتخلى، ولا تنكسر أمام تقلبات الأبناء، بل تكون الجدار الذي يستند إليه الجميع حين يخذلهم العالم.
مكانة الأم في الحضارات والأديان
لم يكن احترام الأم وليد الحداثة أو مقتصرًا على المجتمعات المتحضرة. بل حتى أكثر الشعوب بدائية وقسوة، كانت تضع الأم في موضع التقديس. الحضارة المصرية القديمة كرّمت الأم وجعلتها رمزًا للخصوبة والحياة. وفي الحضارات الإغريقية والرومانية، كانت الأمومة تمثل رمز الخصب والاستمرار.
أما في الإسلام، فقد رفعت مكانة الأم إلى مرتبة لا تضاهيها مرتبة أخرى. جاء في الحديث الشريف عن النبي محمد ﷺ: “أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك”، وهو تكرار يُثبت مدى عظمتها. وجاء في حديث آخر: “الجنة تحت أقدام الأمهات”، وهو تعبير عن أن رضا الله لا يُنال إلا برضاها.
وفي المسيحية، فإن مريم العذراء تمثل الأمومة المثالية النقية، وقد خُصت بمكانة روحية عالية بوصفها أم السيد المسيح. وكذلك في التقاليد اليهودية والهندوسية والبوذية، نُظر إلى الأم على أنها أصل البركة ومصدر الحكمة.
كلمات عن الأم من أعظم المفكرين والأدباء
كثيرة هي الأقوال التي خلدت مكانة الأم في التاريخ. كتب الشاعر حافظ إبراهيم عن الأم فقال:
الأمُّ مدرسةٌ إذا أعددتها
أعددتَ شعباً طيّبَ الأعراقِ
أما الأديب جبران خليل جبران، فقال عنها:
“أمي هي رفيقة طفولتي، وبلسم شبابي، ومصدر قوتي في كهولتي.”
وقال شكسبير:
“ليس في العالم وسادة أنعم من حضن الأم، ولا وردة أجمل من وجهها.”
هذا ما قاله الكبار، وهو ما تعجز الكلمات عن ترجمته حقًا، لأن في قلب كل إنسان قصيدة خاصة عن أمه، يكتبها بالعاطفة قبل الحبر، وبالدمع قبل الكلمات.
الأم في الغياب والحضور
الحضور الدائم للأم لا يقف عند حدود الجسد. حتى حين تفقد الأم، تبقى روحها حاضرة، وذكراها لا تُمحى. إن موت الأم من أكبر الفجائع التي تهز الكيان البشري. لأن من يفقد أمه، كمن انكسر داخله شيء لا يُصلح. كأن الحياة فقدت طعمها، وكأن الحنان غادر المكان. ومع ذلك، فإن دعاءها يبقى، ووصاياها تظل عالقة، وذكرياتها تدفئ القلب في الليالي الباردة.
أما من لا تزال أمه على قيد الحياة، فليحمد الله صباح مساء. فإن مجرد وجودها، حتى دون كلمات أو أفعال، يكفي ليجعل الحياة أسهل، والهمّ أخف، والمستقبل أكثر طمأنينة.
دور الأم في بناء المجتمع
ليست الأم فحسب مسؤولة عن تربية الأبناء، بل عن صناعة أجيال كاملة. في كل طبيب أنقذ روحًا، هناك أم سهرت عليه. في كل معلم أنار العقول، هناك أم قرأت له أول كتاب. في كل قائد، في كل مخترع، في كل مبدع، هناك أم كانت البذرة الأولى في قصته.
الأم ليست فقط نصف المجتمع، كما يقول البعض، بل هي المجتمع كله حين يتعلق الأمر بالتنشئة والمبادئ والقيم. وإذا أردنا جيلًا سليمًا، فلبنته الأولى تبدأ من الأم. التعليم في المدرسة لا يثمر دون تعليم الأم، والانضباط لا يتشكل في الخارج دون أن تكون الأم أول من يزرعه.
جدول يوضح جوانب تأثير الأم في مراحل النمو
| المرحلة العمرية | دور الأم |
|---|---|
| من الحمل إلى عمر سنة | الرضاعة، الحماية الجسدية والعاطفية، تكوين الرابط الحميم |
| من 1 إلى 5 سنوات | التربية المبكرة، زرع القيم، تعلم الكلام والسلوكيات |
| من 6 إلى 12 سنة | الدعم الدراسي، بناء الثقة، التوجيه الأخلاقي |
| من 13 إلى 18 سنة | الاحتواء في سن المراهقة، فهم التغيرات النفسية |
| من 18 وما فوق | الدعم المعنوي، المساندة في اتخاذ القرارات المصيرية |
كلمة ختامية في حق الأم
مهما كتبنا عن الأم، سنبقى مقصرين، لأن الكلمات لا تحيط بالعظمة. هي ليست فقط منبع الحنان، بل هي المنبع ذاته لكل ما هو جميل في الحياة. وجودها راحة، وصوتها طمأنينة، ونظرتها أمان. هي التي لا تستبدل، ولا تُعوّض، ولا تُنسى.
رضاها من رضا الله، ودعاؤها باب من أبواب السماء، وابتسامتها نعمة لا تعادلها كنوز. فطوبى لمن كانت أمه راضية، وطوبى لمن ما زال يجد في وجه أمه النور، وفي يدها دفء الحياة.
المصادر:
-
“بر الوالدين”، محمد متولي الشعراوي.
-
“فن التربية”، عبد الكريم بكار.
